الحمدُ لله الذي خلَق الإنسانَ وأسبَغ عليه النِّعم، وفضَّله على كثيرٍ مِن خلقه حتى النَّعم، وهب له عقلاً، وأمَره أن يَهتدي به إلى عبادته، وأناط به تكاليفَ إنْ وفَّى بها دخَل دار كرامته، وخلَق له زوجًا من نفْسه، ليسكنَ إليها، ويمتثلَ ما جاءتْ به الرسل مِن رِسالته، والصلاة والسلام على مَن جَعَله الله قدوةً لصحابته، وأُسوة لمَن بعدَهم من أمَّته، أدَّبه ربُّه بأفضل القِيم، ومتَّعه بأحسن الشِّيم، فجعل منه أسوةً للزوج الراعي لأهلِه وأسرته، الحريص على لَمِّ شملِها، ومثالاً للأب المربِّي لأبنائه والحاكِم في رعيَّته، إنَّه محمَّد بن عبدالله، فصلاة ربِّي وسلامه عليه وعلى آله وصحْبه أجمعين.
أما بعد: فإنَّ الله سبحانه عندما خلَق الإنسان وجعَله خليفةً على الأرض، خلَق له جملةً من الأشياء ليبتليَه بها، هل يُحسِن استخدامَها، ويُحكِم إعمالها، أم أنَّه ينساق وراءَ هواه، ويتبعه في كل خُطوة ومسعًى يسعاه، ولقد تراكمتْ على مجتمعاتنا الإسلامية مشاكِل، وأحدقتْ بها من كلِّ ناحية قلاقِل؛ نتيجةَ البُعد عن الدين وأخلاقه، وتنكيب الطريق المستقيم، والزَّيْغ عن جادة الصواب، ومما استفحل في زَمننا هذا: الخِلافات العائليَّة، والنِّزاعات الزوجيَّة، الظاهِرة التي تفشَّت أخيرًا وتنامَت، ما يَستدعي مِن المجتمع بكلِّ أطيافه أن يتدخل كلٌّ في موقعه وما لديه مِن قُدرة لنتصدَّى لهذا الزَّحْف الذي قد يأتي على الأخضرِ واليابس للأُسر والمجتمع والأمَّة.
ولقدْ مدَح الله الساعين إلى الإصلاح بيْن الناس عمومًا، وجعَل إصلاح ذات البَين مِن أفضل القُربات، ووعد عليه بإجزال العطيات، وإعظام المثوبات، فقال سبحانه: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 114]،
ورُوي عنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((ألاَ أُخبركم بأفضلَ مِن درجة الصيام والصَّدقة والصلاة [أي: نوافل هذه الأشياء]))، فقال أبو الدرداء: بلى يا رسولَ الله، قال: ((إصلاح ذات البَيْن))، فالمصلح هو الذي يبذل جهدَه ومالَه وجاهه؛ ليرأبَ ما أفسدَه الشيطان ويجبرَ ما كسَره الغل والحِقد، ويلأم ما مزَّقته البغضاء، عملُه خالصٌ وخُطواته في رِضا الله وما يحبُّه، وهو الذي يجزل إثابته ولا يضيع عليه ما بذَلَه؛ يقول سبحانه: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 170].
فإذا كان هذا هو الفضلَ الوارد في الإصلاح عمومًا، فإنَّ أجرَه إذا كان بين الزَّوجين سيكون أعظمَ؛ إذ هما الخليَّة الأساسية لبناء المجتمع، واللبِنة الأولى لتثبيتِ أسسه الصحيحة، ومركز انطلاق وحدته؛ ولهذا اهتمَّ الإسلامُ بفضيلة الإصلاح، ورتَّبَ عليها جزاءً عظيمًا، وأبلغ مِن ذاك أنه أباح للمصلِح الكذبَ إذا كان سبيلاً لاستمالة طرفي النِّزاع؛ روى البخاريُّ أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ليس الكاذبُ الذي يُصلِح بين الناس فيَنمي خيرًا أو يقول خيرًا))، ولنا في الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - خيرُ أُسوةٍ وقدوة حسَنة في التدخُّل الحكيم بين الزوجين ومِن أهلهما؛ إذ أهلهما أَوْلى بالتدخُّل لحلِّ نزاعهما، كما قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 35]، وجاء في الحديثِ الصحيح عن سهل بن سعد قال: جاء رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيتَ فاطمة، فلم يجد عليًّا، فقال: أين ابنُ عمِّك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرَج، ولم يَقلْ عندي (مِن القيلولة)، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لإنسانٍ: ((انظر أين هو))، فجاء فقال: يا رسولَ الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو مضطجع قدْ سقَط رداؤه عن شقِّه وأصابه تراب، فجعَل رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يمسَح عنه ويقول: ((قُم أبا تُراب، قُم أبا تراب))، قال ابن بطال: وفيه - أي الحديث -: أنَّ أهل الفضل قد يقَع بيْن الكبير منهم وبين زوجتِه ما طُبِع عليه البشر مِن الغضب، وقدْ يدعوه ذلك إلى الخروجِ مِن بيته ولا يُعاب عليه.
والسُّؤال الذي يَطرَح نفسَه هو: ما الحِكمة في تقديمِ الحَكمين مِن أهل الزوجين؟
قال العلماء: لأنَّ الأقاربَ أعرفُ ببواطن الأمور وأحرصُ على الإصلاح ولَمِّ شمل الزوجين.
وما يَنبغي أن يعرفَه كلُّ زوج وزوجة أنَّ الحياة الزوجية لا بدَّ فيها مِن مشاكل؛ لأنَّ الآراء تختلف، ولا تكاد في الغالب أن تأتلِف، وهو ما يَستدعي مِن الطرفين معًا إتقان فنِّ التعامل مع هذا الاختلافِ بحِنكة، ودِراية وحِكمة؛ حتى لا تنزلق بهما القدم فيما لا تُحمد له العاقبة، مِن شِجار ومرافعة، وسِباب وملاعنة، وهي أسبابٌ قد تُصيب العائلة وأفرادها بدمار وتشتيت، فكم مِن زوجين سبَّبَا لأبنائهما التشردَ في الطرقات، والتسكُّعَ في الشوارع والأزقَّة، وجعلاَ منهم عرضةً وفريسة للتصعلُك، والوقوع في عالَم المخدِّرات والتدخين والدخول إلى عالَم المخدِّرات والتدخين والإجرام بأنواعه المختلِفة؛ ولذا يتوجب على الزوجين أن يحميَا عشَّ أفراخهما، ويذودَا عن فلذات أكبادهما؛ ليصبحوا أداةَ خيرٍ للبلاد، ومصدرَ نفْع للعِباد، عوض أن تخرّب على أيديهم مصالِح عامَّة وممتلكات فرديَّة، ولعلَّ ما يتكرَّر كل يوم أمامَ أنظارنا أكبر دليلٍ على ذلك، ولسْنا بحاجة إلى التعليق، فالوضع غَنِيٌّ عنه، ولسان الحال أفصحُ مِن لسان المقال.
أيها الإخوة: لعلَّ المتتبع لما ينشأ بيْن الزوجين مِن الخلافات، وما يطرأ في يومياتهما مِن النِّزاعات، يَرجِع إلى عدَّة عوامل، بعضها مادي محض؛ إذ قد تجد بعض الأزواج يتخاصَم على أتْفهِ الأمور، ومِن غرائب ما سجِّل في هذا: أنَّ مصريًّا قتَل زوجته بعدَ خلاف معها حولَ شراء كيلو غرام مِن الطماطم، إذ أجبرتْه على شرائه ودخله اليومي الهزيل لا يَسمح له بذلك، فأدَّتِ المشاجرةُ بينهما إلى إردائها مقتولة! فأين هذا البيتُ مِن بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي يمرُّ عليه الشهرُ والشهران وما أُوقد فيه نار، وإنَّما يعيش على الأسودين الماء والتمر، فلنستمع إلى عائشةَ أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: ((لقد رأيتُنا مع رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما لنا طعامٌ إلا الأسودان التَّمر والماء))؛ أخرجه أحمد.
ثم بيوت الصحابة - رضوان الله عليهم - والسَّلَف الصالح مِن بعدهم بيوت غايةٌ مِن البساطة في المطعَم والمشرَب، لكنَّها تنعم بالسعادة التي تتدفَّق منها الينابيع؛ لأنَّها تعيش على أساس الدِّين والوازع الأخلاقي، أمَّا أكثر بيوت عصرِنا فإنَّها تتوفَّر فيها الإمكانات، وأصناف الأطعمة، لكنَّها بيوت يفتقد منها الزوجانِ ما ينشدانه مِن السعادة، فأصبحتْ حياتهما جحيمًا لا يُطاق، وصدَق رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ يقول: ((خيرُكم خيرُكم لأهلِه، وأنا خيرُكم لأهلي))، وحين يقول: ((إذا صلَّتِ المرأة خمسَها، وصامتْ شهرها، وأطاعَتْ زوجها، قيل لها: ادخلي الجنةَ مِن أيِّ أبواب الجنة شئت))؛ أخرجه ابن حبان.
كما أنَّ مِن أسباب تردِّي العَلاقات الزوجيَّة: الاستعجالَ في اتِّخاذ القرارات المشتركة النَّفْع، فيتَّخذ القرار من جانبٍ واحد دون إشراك الطرَف الآخر برأيه، وكذلك الأنانية وحبّ الذات، وغياب رُوح التسامح، وانعدام الصبر في تحمُّل الخلافات، وإفشاء الأسرار الداخليَّة لكلِّ واحد مِن طرف صاحِبه، وقد حرَص الإسلام على حماية وَحدة الأسرة، فحرَّم إفشاء خبايا الأمور، وفي ذلك يقول المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ مِن أشرِّ الناس عندَ الله منزلةً يوم القيامة الرجلَ يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثم ينشُر سِرَّها))؛ رواه مسلم.
فحِفظ السِّرِّ واجبٌ شرعي، وضرورةٌ اجتماعيَّة، بفقدانه يُصبح الإنسان مهدَّدًا في حياته، فعندما يطَّلع الناس على أسرارِ بيت الزَّوج وطريقة تعامله مع أُسرته وما عندَه مِن مال، فإنَّ ذلك فضيحة، وحِفاظًا على أن تسودَ المودَّةُ بين الزوجين، وتتوطَّد العلاقات الزوجية على أساس المحبة التي هي أسٌّ من أسس بناء المؤسسة الزوجية، ولَبِنة من لبنات الميثاق بين طرفيها (الرجل والمرأة) كما قال سبحانه: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21]، مِن أجل ذلك سيَّج الإسلامُ التكنة الزوجيَّة وأحاطها باحتياطاتٍ لعلَّ أبرزها عدَم مباغتة أهل الدار في حالةِ السفر؛ عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يطرُق أهله، كان لا يدخُل إلا غدوةً أو عشية؛ رواه البخاري، وعن جابر - رضي الله عنه - قال: نهَى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يطرق أهله ليلاً؛ رواه البخاري.
كما أمَر المقدِمَ على الزواج أن ينظُر إلى مَن يرغب في الزواج بها استدامةً لهذه الرابطة المقدَّسة.
وأختم بالإشارة إلى أنَّ المؤسَّسة الزوجيَّة محفوفةٌ بالأشواك، فحلاوتها تُنغَّص بالمرارة، وفيها عقباتٌ، على الزوجين الحزم في تجاوزها، وأن يَعتبر كلٌّ منهما مسؤوليتَه تكليفًا وعبادةً يجب مراقبة الله في كلِّ مراحلها، حتى يلقَى الله وهو عنه راضٍ، فلا بدَّ مِن قائدين حكيمين؛ ليصلاَ إلى برِّ الأمان.